قال الموسيقار المصري راجح داود، المشرف على «مركز الفنون بمكتبة الإسكندرية» إن إعادة تقديم أوبريت «البروكة» كاملاً للمرة الأولى يأتي في إطار مشروع ثقافي لإحياء أعمال سيد درويش وتقديمها بشكل يليق بتراثه ويعيد الاعتبار لهذا الإرث الفني، الذي ظل لفترات طويلة حبيس الإهمال والتجزئة، مؤكداً أن هذا المشروع يخضع لتحضيرات معقدة بدأت منذ وقت مبكر، نظراً لطبيعة العمل الاستعراضية والموسيقية، وحاجته إلى تجهيزات مسرحية دقيقة.
وأضاف داود في حواره لـ«الشرق الأوسط» أنه «على الرغم من تميز الأوبريت على المستوى الفني وصلاحيته للتقديم طوال الوقت، فإنه لم يكن يقدم كاملاً، لكن هذه المرة تمت الاستعانة بأوركسترا وممثلين وعازفين ومطربين». لافتاً إلى أنها المرة الأولى التي يُقدم فيها العرض كاملاً بمدينة الإسكندرية مسقط رأس «فنان الشعب» سيد درويش.
وتُعدّ «البروكة» من العروض الكوميدية المأخوذة عن الأدب الفرنسي، وتروي قصة فتاة كلما وُجدت في مكان حلَّ الخير والرخاء على أهله، وسط مفارقات كثيرة، ومَشاهد متنوّعة يتضمّنها العرض عبر فصوله الثلاثة.
أوضح داود أن اختيار «البروكة» تحديداً جاء لرغبتهم في إعادة تقديم أحد الأعمال المتميزة التي قدمها سيد درويش خلال مسيرته الفنية، إذ تبيّن أن هذا الأوبريت لم يقدم كاملاً على أي مسرح مصري، على حد تعبيره. مشيراً إلى أن إعادة هذا العمل إلى الواجهة يهدف إلى التأكيد على أهمية التراث الغنائي والموسيقي في تشكيل الوعي الثقافي والحفاظ على الهوية الفنية الوطنية.
وحول مركز الفنون بمكتبة الإسكندرية، أوضح الموسيقار المصري أن المركز يعتمد خطة سنوية، لاختيار المشاريع الفنية التي تُعرض بناءً على اعتبارات فنية وثقافية وليست تجارية، مؤكداً أن اختيار مشروع مثل «البروكة» جاء استناداً إلى قناعة شخصية وفنية بأهمية هذا العمل، وليس لكونه مرتبطاً بذكرى أو احتفالية، وهو ما يعكس فلسفة المركز في تقديم أعمال موسيقية ترتبط بجوهر الهوية الثقافية وليس بمناسبات عابرة.
وأضاف أن «التحديات التي تواجه مثل هذه المشروعات متعددة، فمن بينها المرتبطة بتجهيزات المسرحية من ديكور وملابس يناسبان الحقبة التي تدور فيها أحداث الأوبريت، فضلاً عن اختيار فرقة الكورال والمطربين والفرقة الموسيقية بعناية فائقة، بما يتوافق مع طبيعة العمل وأصالته».
وأشار إلى أن المايسترو ناير ناجي عمل على المشروع والتحضير له بشكل جيد مع صياغة العرض عبر كتابة أوركسترالية احتفظت بألحان سيد درويش وتقدمها بشكل عصري باهر، مع اهتمام بأدق تفاصيل الآلات وبصورة ستكون أقرب لما أراده «فنان الشعب» عند كتابة الأوبريت.
وحول تقييمه لدور الإعلام في دعم المشروعات الغنائية الجادة، قال داود إن «الإعلام في السنوات الأخيرة بات يركز بشكل مفرط على الأعمال التجارية والأخبار الترفيهية، بينما يتجاهل المشروعات الفنية الجادة التي تقدم محتوى ثقافي ذا قيمة»، وأكد أن هذا التوجه يؤثر سلباً على تلقي الجمهور للأعمال الفنية الجادة ويقلل من فرص وصولها إلى شرائح واسعة من المجتمع.
ولفت إلى أن هذا الواقع يضاعف من مسؤولية المؤسسات الثقافية المستقلة التي تقع على عاتقها مهمة تقديم هذا النوع من الفنون للجمهور وتعريفه بأهميته، حتى وإن كان ذلك وسط تجاهل إعلامي وعدم اهتمام من قطاعات واسعة من الجمهور.
وأشار إلى أن مشروع «البروكة» لا يهدف إلى تحقيق الربح أو النجاح الجماهيري السريع، بل لتقديم عمل فني يليق باسم سيد درويش ويساهم في إحياء تراثه الفني، معرباً عن أمله في أن يساهم المشروع في فتح الباب أمام تقديم مزيد من أعمال التراث الغنائي والموسيقي العربي بشكل احترافي ومعاصر.
الأعمال الفنية ذات القيمة تبقى خالدة في وجدان الناس وإن لم تحظَ بزخم إعلامي
وأعرب داود عن قناعته بأن الفن الجاد لا يحتاج إلى تسويق ضخم أو دعاية تجارية لكي يفرض نفسه، مؤكداً أن «الأعمال الفنية ذات القيمة تبقى خالدة في وجدان الناس وإن لم تحظَ بزخم إعلامي كبير وقتها، خصوصاً أن تاريخ الموسيقى العربية يزخر بأعمال عظيمة ظلت لسنوات غير معروفة لجمهور واسع، لكنها عندما قُدمت بشكل محترف وصلت إلى الناس وتركت أثرها».
وعن سبب محدودية إنتاجه في الموسيقى التصويرية للأعمال السينمائية في السنوات الأخيرة، قال الموسيقار المصري إن «غالبية الأفلام التي تُعرض عليه لا تستهويه ولا تناسبه ولا تمثل مجالاً يجد فيه ذاته كموسيقار لكونها معتمدة على الكوميديا والأكشن في الغالب»، موضحاً أنه «يفضل العمل على الأفلام ذات المضامين الإنسانية والاجتماعية العميقة».
وأضاف أن «الموسيقى التصويرية في الأفلام الكوميدية والأكشن تعتمد غالباً على الإيقاع السريع والمؤثرات الحركية، وهي طبيعة لا تتوافق مع رؤيته الفنية التي تميل إلى التعبير عن المشاعر العميقة والتحولات النفسية المعقدة للشخصيات».
وأكد داود أن اختياره للأفلام التي يشارك فيها موسيقاراً لا يكون بناءً على مبادرته الشخصية، بل يتم من خلال تواصل المخرجين معه، حيث يُعرض عليه الفيلم ويقوم بقراءته ومناقشة رؤيته مع المخرج، وإذا وجد أن العمل يحمل قيمة فنية حقيقية وقادر على أن يضيف إليه رؤيته الموسيقية، فإنه يوافق على المشاركة. أما إذا وجد أن الفيلم لا يتماشى مع قناعاته الفنية أو لا يحمل مضموناً إنسانياً أو اجتماعياً جاداً يعتذر عن المشاركة فيه.