سينما الرعب رموزاً لمراحل سياسية مختلفة

تنوَّعت في الأساليب والأهداف

«كابينة الدكتور كاليغاري» (دكلا بيوسكوب)
«كابينة الدكتور كاليغاري» (دكلا بيوسكوب)
TT

سينما الرعب رموزاً لمراحل سياسية مختلفة

«كابينة الدكتور كاليغاري» (دكلا بيوسكوب)
«كابينة الدكتور كاليغاري» (دكلا بيوسكوب)

تختلف أفلام الرُّعب في هذا العصر عن تلك التي شهدها هذا النوع من الأفلام منذ عشرينات القرن الماضي وعلى نحو مطرد وحتى سنوات قريبة.

كانت ألمانيا قد خرجت من الحرب العالمية الأولى (1914-1918) جريحة، غير مستقرة اقتصادياً، ومنقسمة سياسياً، ومهزومة عسكرياً. واكبت السينما التعبيرية ذلك الوضع من خلال تناولها حكايات خيالية عن مجتمع يعاني من دون أن تدلف صوب نقل الواقع كما هو، كما فعلت أفلام ألمانية أخرى. اختيارات مخرجين أمثال روبرت واين، وفردريك مورناو، وفريتز لانغ، كانت استخدام الرَّمز والاختلاف في الأساليب البصرية لتعكس شعورها على واقعٍ ومستقبلٍ غير واضحَي المعالم. أفلام «كابينة الدكتور كاليغاري» (Canbinet of Dr‪.‬ Caligari) لروبرت واين (1920)، و«نوسفيراتو» (Nosfiratu‪:‬ A Symphony of Horror) لفرديك مورناو (1922)، وإلى حد، فيلم «إم» (M) لفريتز لانغ (1931)، سوى توريات لوضع قلق عصف بالفترة الفاصلة بين الحربين الأولى والثانية وشهد نشوءاً ومن ثَمَّ دخول ألمانيا عصرها النازي.

«الهضاب لها أعين» (ڤانغارد ريليزينغ غروب)

المكارثية وما بعد

كانت أفلام رعب وتخويف نوعاً وشكلاً، وذات أبعادٍ سياسية واجتماعية في المضمون، ترسم وضع الفترة المضطربة التي شهدتها ألمانيا بين الحربين. لم تكن نبوءة بما سيقع، كما كتب بعض نقاد الغرب بقدر ما كانت تعبيراً للمضمون منعكساً في الشكل العام لتلك الأفلام. أفضلها لناحية الإيحاء بهذا الوضع هو «كابينة الدكتور كاليغاري» لروبرت واين، الذي رمز لحياة مجتمع قلق عبر مضمون موضوعه من ناحية، (سجين مستشفى مجانين يروي حكاية طبيب يقتل ضحاياه)، وعبر أسلوب سرد وتصاميم لقطات وديكورات من ناحية ثانية.

المد السياسي ازداد في الأفلام الأميركية وانحسر عملياً عن تلك الأوروبية، بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية سنة 1945. بعد تلك الحرب تغيّرت العلاقة بين حليفي الأمس الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة، إلى عداوة بسبب ازدياد نشاط اليسار في أميركا، مما دفع باتجاه نشوء المكارثية ومحاكماتها الشهيرة لاستئصال «الخطر الأحمر». واكبت هوليوود ذلك بسلسلة أفلام تقصُّ حكايات رعب في إطار نوع الخيال العلمي شكلاً، وتنضوي على تصوير معاداة الشيوعية ضمناً.

هذا كان شأن أفلام مثل «غزاة من المريخ» (Invaders from Mars) (1951) لويليام كاميرون منزيس، و«جاء من الفضاء الخارجي» (It Came from Outer Space) (1953) لجاك أرنولد، و«حرب العوالم» (War of the Worlds) (1953) لبيرون هاسكين.

ما إن توارت تلك الموجة حتى برزت موجة أخرى معادية للحرب الأميركية في ڤييتنام؛ في «مذبحة تكساس المنشارية» (TheTexas Chain Saw Massacre) لتوبي هوبر (1974)، يتحدث عن أن أشرار الصحراء المعزولة عن المدن يفتكون بالأبرياء الذين يجدون أنفسهم تائهين ومنقطعين في اللامكان الموحش. الحبكة نفسها تضمَّنها فيلم (Hills Have Eyes) «الهضاب لها عيون» لويس غراڤن (1977)، وقبلهما فيلم جورج إيه. روميرو الممتاز (The Night of the Living Dead) «ليلة الموتى الأحياء» (1968)‪.‬ القراءة هنا ليست غامضة: في ربوع أميركا هناك حالة انقلاب ناتجة عن انعدام رؤية واضحة لأميركا بين ماضيها الموعود وحاضرها المتأزم.

على عكس الموجة السابقة التي تبدَّت في الخمسينات، فالعدو هنا ليس خطراً آتياً من الخارج، بل هو وليد الوضع الداخلي. هذا عبَّر عنه أيضاً المخرج جوردان بيل في «اخرج» (Get Out) (2017).

«إنهم أحياء» (يونيڤرسال)

إنهم أحياء

طوال عقود ما قبل الألفية الثانية، خرجت أفلام حدَّدت العدو الداخلي على نحو أوضح. في «تمساح» (Aligator) للويس تيغ (1980)، حكاية مرعبة (كتبها جون سايلس، وهو مخرج جيد بدوره) عن تمساح يعيش في مجاري المدينة يلتهم كل ما تصل إليه فكّاه. بعد حين يزداد شرهه ويبدأ الانقضاض على البشر. يتحوَّل التمساح سريعاً إلى وحش سيُدمِّر النخبة السياسية والاقتصادية الفاسدة كما يشي الفصل الأخير من المشاهد.

جون كاربنتر، بدوره اسم مهم في سينما الرُّعب ومفاداتها. من بين أفلامه الأكثر بروزاً في هذا المضمار «إنهم أحياء» (They Live)، 1988 الذي يوفر حكاية دالّة عن رجل لا عمل له، يكتشف نظارات حين يضعها على عينيه يستطيع التفريق بين الكائنات الفضائية الذين احتلوا الأرض، وحلوا محل البشر من وقت ما، وعليه التعامل مع تلك الحقيقة، مما جعل الفيلم نموذجاً للتحذير من أن العدو (عسكر ورجال سُلطة) يكمن داخل أميركا وليس خارجها.

يمكن تحميل أفلام الرعب أوجهاً مختلفة وتفسيرات متعدِّدة. يعتمد ذلك على ما إذا كان المخرج وكاتبه ينويان طرح مسائل غيبية، أو ميتافيزيقية، أو واقعية مرئية. حتى تلك التي تبدو كما لو أنها ليست سياسية فهي سياسية على نحو أو آخر تلازماً مع حقيقة، أن كلَّ نتاجٍ هو فعل سياسي.


مقالات ذات صلة

السينما المصرية تراهن على طول موسم الصيف لجذب الجمهور

يوميات الشرق دنيا سمير غانم في مشهد من «روكي الغلابة» (حسابها على «فيسبوك»)

السينما المصرية تراهن على طول موسم الصيف لجذب الجمهور

يُراهن صناع السينما المصرية على طول فترة موسم الصيف لطرح مجموعة من أحدث الأعمال السينمائية بشكل متتابع، بعدما اكتفوا بطرح فيلمين فقط خلال موسم عيد الأضحى.

أحمد عدلي (القاهرة)
يوميات الشرق أحمد شوقي (إدارة مهرجان «مالمو السينمائي»)

رئيس «فيبرسي»: السعودية لديها فرصة لتأسيس تيار نقدي قوي

الاتحاد الدولي للنقاد اعتمد لائحة جديدة، والسعودية أصبحت رابع دولة عربية تملك اتحاداً وطنياً للنقاد، وسط تحديات وفرص لتطوير النقد السينمائي في المنطقة.

أحمد عدلي (القاهرة)
يوميات الشرق روبرت دي نيرو والمنتجة بولا وينشتاين في مهرجان «ترايبيكا» (غيتي)

غداة «حرب التحرير» في لوس أنجليس

روبرت دي نيرو يواصل انتقاده الرئيس الأميركي وسط مهرجان سينمائي يزدهر بالأفلام السياسية وقصص المهاجرين.

محمد رُضا (نيويورك)
يوميات الشرق يتناول الفيلم مفهوم العائلة والصداقة والانتماء لفتاة يتيمة تعيش في جزر هاواي (ديزني)

«ليلو وستيتش»... فتاة هاواي تكتسح شباك التذاكر السعودي

للأسبوع الثالث على التوالي، يواصل فيلم «Lilo & Stitch» تصدّره شباك التذاكر السعودي، وحسب التقرير الأسبوعي لهيئة الأفلام، فقد حقق الفيلم إيرادات 7.3 مليون ريال.

إيمان الخطاف (الدمام)
يوميات الشرق بيلي جويل شاباً في «وهكذا تمضي»... (ترايبيكا)

مهرجان «ترايبيكا» يصرُّ على عروض مستقلّة ومتنوّعة

«ترايبيكا» ليس المهرجان السينمائي الوحيد في نيويورك... هناك 21 مهرجاناً آخر في أرجاء المدينة، من بينها اثنان يُحسب لهما حساب مُستحَق...

محمد رُضا (مانهاتن - نيويورك (الولايات المتحدة))

شاشة الناقد: فيلمان رائعان ما بين هدوء الإيقاع وعنفه

«هوم سويت هوم» (زيتروبا فيلم)
«هوم سويت هوم» (زيتروبا فيلم)
TT

شاشة الناقد: فيلمان رائعان ما بين هدوء الإيقاع وعنفه

«هوم سويت هوم» (زيتروبا فيلم)
«هوم سويت هوم» (زيتروبا فيلم)

HOME SWEET HOME ★★★★

• إخراج: رينيه فريله بيترسن

• دانمارك | دراما (112 د)‪‬ ‫ ‬

• عروض 2025: مهرجان «سياتل» (الولايات المتحدة)

يتبع هذا الفيلم منهج الجمع بين الحكاية الدرامية والسرد التسجيلي. هذه مدرسة ازداد عدد المنتمين إليها من المخرجين الذين يكتبون سيناريو روائياً ويصورونه كما لو كانوا يتابعون الحياة من دون إيقاعاتها ومفارقاتها. معظم هذا النوع يتعثر ويثمر عن نصف نجاح أو أقل، لكن هذا الفيلم يمسك بالمعادلة الصعبة جيداً ويمنح مشاهديه معايشة لما يعرضه على نحو صادق ومثير للمتابعة.

إنه عن الشابة صوفيا (ييت سوندرغراد) التي تبدأ العمل في مركز للعناية بكبار السن في منازلهم. مشهد الافتتاح يُصور يومها الأول، حيث تترقب، بابتسامة عريضة، ما تقوم به ممرضة أخرى لتتعلم منها. سريعاً بعد ذلك تبدأ العمل منفردة وبكل عناية. تتكلم وتستمع وتُداوي، ومن ثم تنتقل إلى منزل آخر فيه مريض آخر. كل شيء يبدو طبيعياً، لكن العين تراقب تبدلات لاحقة وتطورات تجعل عمل صوفيا أكثر صعوبة عندما تواجه، بعد حين، تذمر المرضى ومواجهات لم تكن في حسبانها.

تحاول صوفيا في البداية التعايش مع متطلبات وظيفتها والتعامل مع إحباط وعجز من تُنتدب لتأمين متطلباتهم. بعد حين، ينعكس كل ذلك عليها ويجعلها أقل استجابة وأكثر استعداداً لتقديم الأقل في أسرع وقت. إلى جانب أن ابنتها (10 سنوات) تعيش حزناً صامتاً بسبب غياب والدتها عنها.

الكاميرا عند بيترسن هي عين مستقلة، شريك صامت لما يقع، تتابع أخطاء المؤسسة وتنتقدها عبر تفاصيل منتقاة من دون مبالغة درامية. ألوان وديكورات وأضواء الأمكنة عارية من الدفء. متابعة التفاصيل تؤدي إلى نقد المؤسسة التي تقضم سعادة العاملين فيها.

HIGHEST 2 LOWEST ★★★★

• إخراج: سبايك لي

• الولايات المتحدة | تشويق (133 د)‪ ‬ ‫ ‬

• عروض 2025: مهرجان «كان» (فرنسا)

الرقم 2 في العنوان هو بديل لكلمة to والفيلم مأخوذ عن «عالٍ ومنخفض» (Hight and Low) للياباني أكيرا كوروساوا. وكلاهما - سبايك لي وكوروساوا - يستندان إلى رغبة كل منهما تداول أزمة أخلاقية - اجتماعية - عائلية ناتجة عن عملية خطف مقابل فدية.

دنزل واشنطن في «عالٍ ومنخفض» (A24)

المسيرة بدأت سنة 1963 عندما اقتبس كوروساوا رواية وضعها الأميركي إيفان هنتر. جيل كامل عاش على روايات هنتر البوليسية (منهم هذا الناقد)، خصوصاً تلك التي كتبها تحت اسم آخر هو إد ماكبين. وهو كتب سيناريوهات للسينما، أشهرها سيناريو فيلم «الطيور» لألفرد هيتشكوك سنة 1963، المأخوذ عن قصة لدافني دو مورييه.

كوروساوا حوّل رواية هنتر «فدية كينغ» إلى «عالٍ ومنخفض» للتعبير عن مستويات أخلاقية ومهنية، وصوّر فيلمه بالأبيض والأسود، محولاً اسم الشخصية الرئيسية من كينغ إلى كينغو. سبايك لي عاد إلى الاسم الأصلي في الرواية وصوّر الفيلم ملوّناً في نيويورك.

يحاذي «عالٍ ومنخفض» فيلم كوروساوا في إجادة التنفيذ، مع اختلاف كبير في استخدام المفردات التقنية والفنية. لكلٍّ منهما أسلوبه، ونقطة اللقاء هي سرد محكم لدراما تشويقية هي أكثر من مجرد فيلم بوليسي.

في الفيلم الجديد، يعاني كينغ (دنزل واشنطن) من متاعب مادية، ويرى أن إنقاذ شركته يعتمد على التفاوض مع شركائه بُغية شراء حصصهم. لا اتفاق، بل غضب. بعد انتهاء اجتماع بلا نتيجة واضحة، يرنّ الهاتف. هناك من يُخبر كينغ أن ابنه تراي (أوبري جوزيف) قد خُطف. يتحوّل كل شيء إلى عاصفة، ثم تزداد الأزمة صعوبة عندما يصله نبأ أن ابن سائقه الخاص (جيفري رايت)، واسمه كايل (يؤدي دور كايل إيلايجا رايت، ابن الممثل جيفري رايت في الواقع)، هو أيضاً مفقود. لقد ارتكبت العصابة خطأً حين خطفت ابن السائق معتقدةً أنه ابن كينغ. المعضلة هنا هي: هل كينغ على استعداد لدفع الفدية (نحو 17 مليون دولار) لإنقاذ ابن سائقه، في الوقت الذي يسعى فيه لتجاوز أزمة شركته المالية؟ هذا هو الجانب الأخلاقي من الفيلم. النصف الثاني منه يعتمد على الحركة، والإيقاع، والنبرة التشويقية القائمة على الإثارة. لكن الفيلم لا يفلت من يد سبايك لي لسببين: الأول أنه أحكم قبضته على العمل ككل بفضل سيناريو جيد لآلان فوكس، والثاني اعتماده على تصوير ماثيو ليباتيك تواكب نظرة المخرج الخاصة لمدينة نيويورك.

في أفلامه السابقة، مثل «حمى الغابة» و«الساعة الخامسة والعشرين» (25th Hour)، تعامل مع هذه المدينة بحب، رغم واقعية تصويره لها. لمدينة نيويورك وجهان، وكلاهما موجودان في أفلام المخرج؛ أحدهما جميل، والآخر قبيح، وكلاهما يتناصفان. موسيقى هوارد دروسِن أكثر من عنصرٍ مكمّلٍ لفيلمٍ يُعَدّ من أفضل أعمال المخرج حتى اليوم.

★ ضعيف | ★★: وسط| ★★★: جيد | ★★★★ جيد جداً | ★★★★★: ممتاز