بعد ثلاث سنوات من التعرّض للهزيمة، نجح لي جاي ميونغ، مرشح «الحزب الديمقراطي» لمنصب الرئاسة في كوريا الجنوبية، في الفوز بأرفع منصب في البلاد. ويأتي انتخاب لي، الذي كان طفلاً عاملاً ومن خارج الدوائر السياسية، للمرة الثالثة ليتولى حكم البلاد لمدة خمس سنوات. حقّق لي، الذي ركب موجة من الغضب الشعبي ضد إعلان الأحكام العرفية من جانب يون سوك يول، الرئيس السابق المعزول، فوزاً ساحقاً بدعم أكثر من 17.2 مليون كوري، جامعاً من الأصوات الشعبية أكثر من أي رئيس آخر منذ تطبيق كوريا نظام الانتخاب المباشر عام 1987. وجاء هذا الفوز عبر تغلب لي على منافسه المحافظ كيم مون سو في الانتخابات الرئاسية المفاجئة حاصلاً على نسبة 50 في المائة من الأصوات، مقابل 41 في المائة لمنافسه كيم. إلا أنه ليس لدى الرئيس الجديد (وهو الـ14 للبلاد) أي وقت للاحتفال، فأمامه أكوام من التحديات، منها التراجع الاقتصادي، وخطر «حرب» التعرفة الجمركية التي فرضها عالمياً الرئيس الأميركي دونالد ترمب، والمشاكل الأمنية مع كوريا الشمالية، وأهمية معالجة الانقسام الداخلي. ومع هذا، تظل المهمة الكبرى والعاجلة تثبيت نظام ديمقراطي متزعزع بفعل الأزمات السياسية وانعدام الثقة الشعبية بعد ما سبّبه يون سوك يول، الرئيس السابق المعزول الذي ينتمي للحزب نفسه الذي ينتمي إليه كيم، من فوضى بإعلان الأحكام العرفية في ديسمبر (كانون الأول) 2024.
تعرّضت مسيرته السياسية للتقلبات صعوداً ونزولاً منذ ترشّحه للرئاسة للمرة الأولى عام 2017، لكنه تمكن من تجاوز كل الأزمات
يحمل لي جاي ميونغ معه إلى المنصب الرئاسي سيرة شخصية صعبة. إذ وُلد في أواخر 1963 لأسرة ريفية فقيرة في محيط آندونغ (بشرق كوريا الجنوبية) وبدأ مسيرته بعد الطفولة عاملاً... إلى أن وصل للرئاسة.
ترتيب لي الخامس بين سبعة أشقاء، وكان كل أفراد الأسرة يعيشون في غرفة واحدة من دون مياه أو كهرباء. ولقد ذكر لي في سيرته الذاتية أن رحلته من وإلى مدرسته الابتدائية كانت تستغرقه أربع ساعات يومياً. وبعد العودة، كان يذهب لحراثة الحقول. ولكن مكتبة المدرسة الصغيرة شكّلت له ملاذاً لأنها كانت تتيح له الانغماس في كتب المغامرات كاستراحة من الكآبة في البيت.
الفقر والطموح
الفقر المدقع حال دون إكمال لي دراسته وهو في الثالثة عشرة من العمر، فاضطر إلى العمل في المصانع، والكذب بشأن عمره، والوقوع في عدد من الحالات ضحية مديرين مخادعين يمتنعون عن إعطائه أجره. وفي إحدى الوظائف أُصيب معصمه بسبب آلة ضغط ما أدى إلى شعوره بألم مستمر وشُخّص بأنه مصاب بإعاقة. وبعدها حاول ليأسه الانتحار مرتين، لكنه لم ينجح.
مع ذلك، ترقّى الفتى الطموح في السلم الاجتماعي، وواصل دراسته ليحصل على دبلوم تعليم عام، وهي شهادة تعادل الشهادة الثانوية، عام 1980. ودرس بعد ذلك الحقوق في جامعة تشونغ أنغ، واجتاز اختبار الدولة الخاص بممارسة المحاماة عام 1986، وحصل على الماجستير في الإدارة العامة من جامعة غاتشون.
انغمس لي في القضايا الإنسانية وقضايا حقوق العمال، عاقداً العزم على مساعدة العمال الذين يتعرّضون للاستغلال والمحرومين من حقوقهم مثلما كان حاله في الماضي. فهو عاش الفقر والعمل والعنف شخصياً، لا عبر الروايات أو الكتب، ومع صبره على معاناته العملية، كان يحلم باجتياز اختبار الشهادة المعادلة. وهذا مع أن والده، العامل البسيط، ما كان يهتم بطموح لي الأكاديمي، كما كتب في سيرته الذاتية.
تزوّج لي من كيم هاي كيونغ، وأنجبا ابنين؛ هما دونغ هو الذي وُلد عام 1992، ويون هو الذي وُلد عام 1993. ووفق كلام كيم عن حياتها اليومية المتمحوِرة حول الأسرة «هناك الكثير من الكتب في كل مكان في البيت، وكانت دائماً هناك مناقشات في أثناء تناول الطعام بين الأب والولدين حول قضايا اجتماعية أو كتب».
الولدان في جامعة كورية بعد أدائهما الخدمة العسكرية.
وذكر الصحافي باي أوم جي وون أن «رحلة لي من طفل عامل إلى رئيس بذراع مُعاقة، غير مسبوقة في التاريخ السياسي لكوريا الجنوبية، ونادرة في أي مكان في العالم. ومن ثمّ، لا يمثل انتخابه لحظة سياسية درامية للبلاد فحسب، بل أيضاً صعود شخصية سياسية عالمية من المرجح أن تجذب رحلتها الشخصية، وقناعاتها السياسية، وموقفها تجاه السياسة الخارجية للبلاد، انتباه وأنظار العالم».
السلم السياسي
لقد قاده سخط لي جاي ميونغ العميق على الحكم المحلي الفاسد إلى عالم السياسة. وانطلق من الترشح عام 2010 لمنصب عمدة مدينة سونغنام، عاشرة كبرى مدن البلاد، وفاز بالمنصب. ورأى كثيرون في هذا النصر حلماً تحقق على أرض الواقع. وبالفعل، ظل حكم لي المدينة لفترتين متتاليتين، ومن تلك النقطة انطلقت مسيرته السياسية، وقادته إلى مقعد حاكم مقاطعة غيونغي، المكتظة بالسكان، ثم إلى رئاسة البلاد بأكملها.
ومن ثم، احتل الرجل، الذي كان يوماً دخيلاً وغريباً على الدوائر السياسية، موقعاً بارزاً عام 2016 بعد إلقائه سلسلة من الخطابات الشعبية الحماسية انتقد خلالها الرئيسة بارك غن هي، التي عُزلت لاحقاً من منصبها بسبب فضيحة فساد. وقال لي خلال أحد التجمّعات الجماهيرية الشعبية في ديسمبر (كانون الثاني) 2016 «لنقبض عليها بأيدينا ونسلمها إلى التاريخ». ومنذ ذلك الحين بدأ الكثير من تعليقاته يجذب مواطنيه.
مع هذا، تعرّضت مسيرة لي السياسية للتقلبات صعوداً ونزولاً منذ ترشّحه للرئاسة للمرة الأولى عام 2017، لكنه تمكن من تجاوز كل أزمة، والنهوض مجدداً. فهو خسر قبل ثلاث سنوات أمام يون سوك يول بفارق ضئيل نسبته 0.73 في المائة في الانتخابات الرئاسية عام 2022. بيد أنه رغم الهزيمة في تلك الانتخابات رفض الخضوع لضغط حزبه والاستسلام.
في يونيو (حزيران) من العام نفسه، ترشح للبرلمان عن إحدى دوائر مدينة إنتشون، وفاز. وبعد ذلك بشهرين، في أغسطس (آب)، ترشح لرئاسة الحزب الديمقراطي خلال المؤتمر العام للحزب. وتحت قيادته تبنّى الحزب موقفاً حازماً ضد الرئيس يون حتى عزله في بداية أبريل (نيسان). وقدّم مقترحات بإجراء تحقيق خاص ضد السيدة الأولى كيم كيون هي، و30 اتهاماً من البرلمان ضد مسؤولين ووزراء في حكومة يون. وعام 2024 تعرّض لي لهجوم من رجل أخبر المحقّقين أنه أراد قتل لي لمنعه من أن يصبح رئيساً.
مشاكل قانونية
كما سبق، يصل لي جاي ميونغ إلى الرئاسة الكورية وسط صعوبات ومشاكل قانونية، إذ يواجه في خمس محاكمات تهم فساد وتهماً أخرى، بل هدّدت بعض معاركه القانونية في وقت ما ترشحه للرئاسة.
لي احتفل في مارس (أذار) عندما ألغت محكمة سيول العليا حكماً معلقاً ضده بالسجن لانتهاك قانون الانتخابات خلال السباق الرئاسي عام 2022. غير أنه استشاط غضباً في مايو (أيار) حين أبطلت المحكمة العليا ذلك الحكم، وأعادت القضية إلى محكمة أقل درجة، مشيرة إلى ترجيح كونه مذنباً. وبعدها أجّلت الجلسات إلى ما بعد الانتخابات، والحال، أنه لو كانت إدانته نهائية، لكان مصيره الحرمان من الترشّح للرئاسة.
بجانب ذلك، ثمة محاكمات أخرى تتعلق بدوره في مشاريع تنمية «مريبة»، وعمليات تحويل أموال غير قانونية إلى كوريا الشمالية، ومزاعم بإساءة استغلاله لأموال الدولة، وإقناع شاهد بالشهادة الزور.
ولكن يُرجح أن تتوقف المحاكمات الخمسة للي، لكون دستور البلاد يمنع اتهام رئيس يشغل المنصب بأكثر الجرائم. مع ذلك سيعترض خصومه على ذلك لأن الدستور لا ينص بوضوح على ما إذا كان من المتاح إدانة رئيس البلاد بجرائم في حال توجيه تلك الاتهامات له قبل توليه المنصب.
في المقابل، يدفع الحزب الديمقراطي (الذي ينتمي إليه لي) ولديه الغالبية في البرلمان، باتجاه مراجعة قانون الإجراءات الجنائية لتعليق المحاكمات الجنائية القائمة التي يواجهها الرئيس حتى نهاية مدته الرئاسية. وبالطبع انتقد المحافظون بشدة هذا التحرك.
من جهة ثانية، واجه لي، مثل خلفه المعزول، لغطاً يمس أسرته، إذ أُدينت زوجته كيم بإساءة استخدام البطاقة الائتمانية الخاصة بحكومة المقاطعة وانتهاك قوانين الانتخابات، حين أنفقت أموال مقاطعة غيونغي على تقديم وجبات إلى زوجات نواب الحزب الديمقراطي البرلمانيين عام 2021. وحقاً، أصدرت محكمة استئناف حكماً ضدها بدفع غرامة قدرها 1.5 مليون، رغم طعن كيم على الحكم أمام المحكمة العليا. كذلك أُدين ابن لي الأكبر بنشر منشورات جنسية فاضحة على الإنترنت، والمقامرة على الإنترنت، وحُكم عليه بدفع غرامة قدرها 5 ملايين جنيه خلال العام الماضي.
تحديات داخلية
في الخلاصة، يواجه لي أصعب تحديات واجهها رئيس كوري منذ انتخاب كيم داي جونغ إبان أزمة السيولة الكورية عام 1997. ولذا عليه التحرك سريعاً، مع تسارع العد العكسي لتعيين رئيس الحكومة وأعضاء مجلس الوزراء ورئيس أركان الجيش، من أجل التعامل بسرعة مع ذلك الكمّ الهائل من المهام.
كذلك تحتاج الديمقراطية الكورية، بوصفها نظاماً، إلى إصلاحات، والعمل على تخفيف حدة الانقسامات السياسية، بجانب التعامل مع أحد أدنى معدلات المواليد في العالم. وفي هذه الأثناء، يتوقع المواطنون أن يمثل فوز لي بداية لعودة الأوضاع الطبيعية في البلاد، التي تحملت أزمة دستورية وسياسية لمدة ستة أشهر بسبب فرض الرئيس السابق الأحكام العرفية وما أعقب ذلك من اتهامات.
وحتماً ستكون الأولوية للاقتصاد بالنسبة إلى لي، ففي نهاية مايو، توقع مصرف كوريا (المصرف المركزي لكوريا الجنوبية) انخفاض الناتج المحلي الإجمالي لعام 2025 من 1.5 في المائة إلى 0.8 في المائة، وهذه نسبة متواضعة للغاية. وفي المقابل، يمثّل ارتفاع التضخم، وتراجع الاستهلاك المحلي، والضربات المحتملة لصادرات كوريا الجنوبية، خاصة، بسبب التعريفة الجمركية الأميركية، مخاطر جدّية على النمو الاقتصادي.