هي أشهر شخصية نسائية في التاريخ. يكفي التلفُّظ باسمها حتى تشتعل الذاكرة بمئات الصور، والمرويات، والأضواء، والعواطف الجامحة، والمآسي. كيف صنعت كليوباترا أسطورتها، وما أشكالها على مرّ الزمن؟ الجواب في معرض جديد بصفة متحف، من تنظيم معهد العالم العربي في باريس، ويستقبل الزوار حتى مطلع العام المقبل.
تُعدّ كليوباترا آخر حكّام سلالة البطالمة اليونانية المصرية الأكثر شهرة. ومنذ وفاتها قبل ألفَي عام، استمرَّت شهرتها في النمو. وهي شهرةٌ مثيرةٌ للدهشة بالنظر إلى عدم وجود سيرة ذاتية قديمة تُثبتها. لقد غدت بمثابة أسطورة فريدة. دارت التكهّنات حول شخصيتها، وحول الثنائيات في لغزها: العاطفة والموت، الشهوانية والقسوة، الثروة والحرب، السياسة والقداسة، مما يُضيء على وجهات النظر المتباينة لدى الغرب حول الحضارة المصرية، وبشكلٍ أعمّ، حول المكانة التي تمتَّعت بها نساء الحكم هناك. لقد شغلت هذه الجوانب التي لا تُحصى خيال المبدعين في الكتابة، والرسم، والنحت. وأسهمت مسرحية شكسبير، «أنطونيو وكليوباترا»، إسهاماً كبيراً في الترويج لمصير الملكة، فضلاً عن الموسيقى، والأوبرا، والباليه، وأخيراً السينما، والقصص المصوَّرة، والإعلانات. ولم تسلم منها حتى ألعاب الفيديو.
حتى القرن الـ19، بقيت أسطورة كليوباترا أداة لتجاوز المحظورات الدينية، والسياسية، وهي نتاج عمل جماعي للفنانين، والمؤلّفين، قبل أن تُسفر عن ظهور شخصية أيقونية عالمية. لم تعد امرأة مفرطة في شهواتها، وإنما سيدة قوية تُناضل من أجل وطنها، وشرفها، وحريتها.
يُلقي كتاب «لغز كليوباترا»، الصادر بمناسبة المعرض، نظرةً على الوضع الراهن للمعلومات التاريخية والأثرية التي لا تزال قليلة، وهشَّة. وهو يُضيء على التناقض بين ندرة المصادر وكثرة الادّعاءات. كيف ينتقل المرء من أسطورة إلى أسطورة؟ ومن أسطورة إلى رمز قوي متعدّد الوجوه؟ لا يزال هناك كثير من الغموض يكتنف هذه الأيقونة العالمية، وهو ما يحاول هذا المعرض في معهد العالم العربي أن يكشف عنه الستار.
منذ انتحارها قبل ألفي عام، استمرت شهرة كليوباترا في النمو. وهي شهرة متعدّدة الأوجه، ومثيرة للدهشة. والسبب عدم وجود سيرة ذاتية قديمة تُشكّل أساساً لها. لقد سكنت مخيّلتنا في جميع مجالات الإبداع، وانتشرت حتى أصبحت مُستهلكة.
من أين جاءت هذه الشهرة؟ اللوحات، والمنحوتات، والمطبوعات، والمخطوطات، والقطع الأثرية، والمجوهرات، والعملات المعدنية، والأزياء، والعروض، والصور الفوتوغرافية... جميعها تُقدّم إجابات عن هذا السؤال، ويُمكن اكتشافها من خلال مجموعة غنية من الأعمال التي استعارها المعرض من متحف «اللوفر»، والمكتبة الوطنية الفرنسية، وقصر فيرساي، ومتاحف أخرى في إسبانيا، والولايات المتحدة، وإيطاليا، وسويسرا.
من ضمن المعروضات، عدد من اللوحات التي تنساق وراء النظرة الاستشراقية للمرأة: ملكة مستلقية شبه عارية، وجوارٍ سمراوات وسوداوات يُحطن بها، وأجواء تدلّ على الرفاهية، والكسل. هل يمكن تصوّر النفوذ الذي اكتسبته كليوباترا إذ كانت تمضي وقتها راقدة تحت مراوح ريش النعام؟ من المعروضات مثلاً غطاء رأس على شكل طاووس، وهو تقليد لما كانت ترتديه الملكة في الأفلام؛ أي من بنات أحلام المخرجين. وهناك مجوهرات مسرحية صمَّمها فيكتوريان ساردو للممثلة سارة برنار في فيلم «كليوباترا»، عام 1890.
يبدأ المعرض بنظرة على أحدث الاكتشافات التاريخية، والأثرية. وبفضل مصادر مباشرة نادرة، مثل العملات المعدنية، وبرديات تحمل توقيعها، استطاع المنظّمون تحديد هوية اسم كليوباترا السابعة «فيلوباتور». ويسلط هذا القسم الضوء على السياق الاقتصادي والسياسي والديني لذلك العصر المهم، حين كانت مملكة مصر تحت الحماية الرومانية، وعاصمتها الإسكندرية، مركز العالم الهلنستي، ومركزاً مزدهراً للدراسة، والتجارة. انتهجت كليوباترا، آخر ملوك السلالة البطلمية، سياسة إصلاحية فعّالة أغنت بلادها. وبحكمتها الاستراتيجية ضمنت السلام خلال 20 عاماً من حكمها.
وعام 31 قبل الميلاد، مثّلت الهزيمة في أكتيوم، بين روما بقيادة أوكتافيوس، ومصر بقيادة كليوباترا ومارك أنطونيو، نقطة تحوّل رئيسة في تاريخ البحر الأبيض المتوسط. فبانتحار ملكتها انتهى استقلال مصر، وانتهى حكم السلالات الفرعونية. وفي حين ركّز المؤلّفون العرب على صفات كليوباترا الفكرية، ودورها رئيسةً للدولة، فإنّ المؤلّفين الرومان مسؤولون عن ترسيخ أسطورتها المظلمة، تماشياً مع دعاية خصمها الإمبراطور أغسطس، من خلال تصويرها على أنها وحش شرير. وفي كتابات العصر الإمبراطوري، شُوِّهت سمعتها، ونُحّيت إلى الخلفية، ولم تظهر إلا في القصص المخصَّصة لقيصر، أو مارك أنطونيو. ففي نظر السلطة الرومانية المعادية للنساء، صُوِّر «المصري» على أنه يُجسّد الشهوة، والتهديد، سواء أكان امرأة قوية الإرادة، أم ملكة. وسيكون لهذه المصادر المتحيّزة تأثير دائم على التأريخ.
بفضل انتحارها، أفلتت كليوباترا من أسر الرومان، وصنعت أسطورتها الخالدة: الموت البطولي لملكة بالغة الجاذبية. قيل إنّ لها ملامح مميزة، وأنفاً طويلاً. فلو كان أنفها أقصر، لتغيَّر التاريخ! ووفق المؤلّفين القدماء، أثبتت تلك المرأة أنها مصدر إلهام لا ينضب. مئات المخطوطات المزخرفة، والرسوم، واللوحات، والمنحوتات موجودة عنها، ومن وحيها. كما خلَّدها الأدب، والمسرح، والأوبرا، والسينما... كلها عمَّمت أسطورتها، بل وألصقت بها، أحياناً، صورة حواء الخاطئة، وأحياناً أخرى مثالاً لشرقٍ منحرف.
بعد سارة برنار التي جسَّدت دورها في فيلم «كليوباترا» للمخرج فيكتوريان ساردو، انتقمت الملكة على الشاشة، متفوّقةً على يوليوس قيصر وأنطونيو. وتقمَّصت ممثلاتٌ ذوات كاريزما شخصيتها في السينما في إنتاجاتٍ مذهلة، بملابس فاخرة، وزينة وجه من بنات الخيال. وأشهر من لعب تلك الأدوار النجمة الإيطالية صوفيا لورين، والأميركية إليزابيث تايلور في الفيلم الشهير للمخرج جوزيف إل مانكيفيتش عام 1963.
مع انتشار الصور، وسطوة نظام النجوم، وتبادل المعلومات على نطاق واسع، وجدت كليوباترا طريقها إلى كل منزل. لقد أوشكت أن تتحوَّل سلعةً استهلاكية. فهي ملكة جمال، وملهمة أزياء، أو علامة إعلانية. وبتحوّلها إلى إحدى النساء المشهورات في العالم، تغلَّبت الأسطورة على الحقيقة، مما أدّى إلى ارتباكٍ دائم على حساب الشخصية الحقيقية لامرأة تاريخية قادت دولة.
في نهاية القرن الـ19، استفادت النسويات من أسطورتها، وبرزت كليوباترا رمزاً للهوية، ونضالات التحرُّر. هذه المرأة القوية المستقلّة، التي فضَّلت الموت على الاستسلام، يُعاد تفسيرها من منظور النضالات السياسية الجديدة. وهي في مصر تُعدُّ رمزاً وطنياً لمقاومة الاستعمار. وفي الولايات المتحدة يحتضنها مجتمع الأميركيين الأفارقة كونها زعيمة دولة أفريقية. وعلى نطاق أوسع، تُعيد الحركات النسوية تأهيل صورتها على أنها امرأة قوية عرفت كيف تُسمِع صوتها. وهكذا، عبر القرون، وثمار البحث التاريخي والأكاديمي، لا تزال شخصية كليوباترا مرآةً للتطلُّعات، والأوهام...