في كشف علمي يُعيد رسم ملامح بداية التوسع البشري على سطح الأرض، توصلت دراسة حديثة قادها باحثون من معهد «ماكس بلانك» الألماني وجامعة كامبريدج البريطانية إلى أن الإنسان العاقل (Homo sapiens) بدأ رحلة التكيّف مع البيئات القاسية والمتنوعة في أفريقيا قبل نحو 70 ألف عام، وهي اللحظة التي شكلت نقطة تحول مفصلية مهدت للهجرة الكبرى خارج القارة بعد ذلك بعشرين ألف عام. وفقاً لصحيفة «نيويورك تايمز».
الدراسة، التي نُشرت مؤخراً في إحدى المجلات العلمية المتخصصة، اعتمدت على تحليل بيئي وأثري واسع النطاق شمل مئات المواقع في القارة الأفريقية، وقدّمت تصوراً جديداً لكيفية تنقل الإنسان وتطوره خارج نطاق ما كان يُعتقد سابقاً من اقتصار نشأته على بيئة «السافانا» في شرق أفريقيا.
الإنسان المتعدد البيئات
بحسب التقرير، إنه خلافاً للرأي السائد بأن الإنسان تطوّر في نطاق ضيق من الأراضي العشبية والغابات المفتوحة، تكشف الدراسة عن أن جماعات بشرية عاشت قبل أكثر من 150 ألف عام في بيئات استوائية مثل الغابات المطيرة في غرب أفريقيا، ما يدل على قدرة مبكرة على التكيّف مع ظروف مناخية وبيئية متباينة.
علّقت البروفسورة إلينور سكيري، الباحثة في معهد ماكس بلانك والمشاركة في الدراسة، على هذه النتائج بقولها: «كنا نعلم أن الإنسان لم ينشأ في بيئة واحدة، لكننا نكتشف الآن أنه خاض تجربة تطورية في نطاق بيئي أوسع بكثير مما كنا نتصور».
وتضيف أن هذه القدرة على التكيّف لم تكن فطرية بالكامل، بل جاءت نتيجة آلاف السنين من المحاولة والخطأ، وتضييق خيارات المأوى الطبيعي بسبب تغيرات مناخية حادة.
المناخ... البوابة نحو التحدي
تزامن هذا التحول مع فترة من التغيّرات المناخية الجذرية في أفريقيا، حيث بدأت المناطق التي كانت خضراء وممطرة – بما فيها ما يعرف اليوم بالصحراء الكبرى – في الجفاف والتحول إلى بيئات قاسية وغير مضيافة.
في هذا السياق، يقول الدكتور أندريا مانِكا، عالم الوراثة بجامعة كامبريدج وأحد معدّي الدراسة: «ما حدث لم يكن مجرد انتقال إلى بيئات جديدة، بل تحول كامل في طريقة الحياة؛ الإنسان لم يعد يعتمد على بيئة واحدة، بل أصبح متعدد المهارات، قادراً على التأقلم في أي مكان».
البعد الاجتماعي في التوسّع
ولم يقتصر التحول على الجانب البيئي، بل صاحبته أيضاً قفزة اجتماعية وثقافية ملحوظة، حيث بدأت الجماعات البشرية – التي كانت حتى ذلك الحين مشتتة ومعزولة – في التواصل والتبادل والتعلّم المشترك.
ويرى الباحثون أن هذه الشبكات الاجتماعية الناشئة أسهمت في تبادل المهارات والمعرفة وأسست لما يُعرف اليوم بالثقافات البشرية الأولى، وهو ما منح الإنسان أفضلية بيولوجية ومعرفية في رحلته إلى خارج القارة.
من أفريقيا إلى العالم
وبحسب الدراسة، فإن التوسع البيئي والاجتماعي الذي بدأ قبل 70 ألف عام هو ما جعل الهجرة من أفريقيا ممكنة قبل نحو 50 ألف عام. إذ لم تكن تلك الهجرة مجرد خروج من حدود جغرافية، بل نتيجة تراكم خبرات طويلة مكّنت الإنسان من احتلال بيئات صعبة كالسهب الأوروبي والتندرا السيبيرية، وحتى الجزر النائية في المحيطات.
خلاصة
تلخص الدراسة أن نجاح الإنسان العاقل في مغادرة أفريقيا لم يكن وليد لحظة مفاجئة، بل ثمرة سلسلة طويلة من التكيّف البيئي والانفتاح الاجتماعي والتطور المعرفي.
وهو ما جعل من الإنسان الكائن الوحيد القادر على العيش في كل بقاع الأرض، من الغابات إلى الجبال، ومن الصحارى إلى الجزر المعزولة، سمة لا تزال تميزه حتى اليوم.