جيورجيا ميلوني... من التطرف إلى البراغماتية

رئيسة وزراء إيطاليا تطرح لليمين الأوروبي «نموذجاً واقعياً للقيادة»

ميلوني أثناء لقائها خلال الشهر الماضي مع ترمب في البيت الأبيض (آ ف ب)
ميلوني أثناء لقائها خلال الشهر الماضي مع ترمب في البيت الأبيض (آ ف ب)
TT

جيورجيا ميلوني... من التطرف إلى البراغماتية

ميلوني أثناء لقائها خلال الشهر الماضي مع ترمب في البيت الأبيض (آ ف ب)
ميلوني أثناء لقائها خلال الشهر الماضي مع ترمب في البيت الأبيض (آ ف ب)

أواخر عام 2012، وبعدما كان نجم سيلفيو برلوسكوني قد بدأ يأفل في المشهدين السياسيين الإيطالي والأوروبي، أقدمت مجموعة من قيادات حزبه، تتزعمها رئيسة الوزراء الحالية جيورجيا ميلوني ورئيس مجلس الشيوخ إيغناسيو لا روسّا، على الانشقاق عن الحزب الذي كان أسسه برلوسكوني وحمله أربع مرات إلى رئاسة الحكومة، وقرّرت تأسيس حزب جديد تحت مسمّى «إخوان إيطاليا»؛ تيمناً بعنوان النشيد الوطني الإيطالي. الدافع المعلن لهذه الخطوة كان رغبة المجموعة المنشقّة في إبراز الهوية اليمينية للتيار الذي كانت تمثله، والذي كان في معظمه من ركام الحزب الفاشي الإيطالي المحظور بموجب الدستور تحت مسمّى «التحالف الوطني» الذي تدرّجت ميلوني في صفوفه صبيّة في التاسعة عشرة رئيسةً لتيّار الشباب. غير أن السبب الحقيقي غير المعلن للانشقاق كان التموضع في المشهد السياسي تحسباً للانهيار الذي كانت بدأت تظهر تباشيره في صفوف اليمين الإيطالي، والذي كان حزب «الرابطة»، الانفصالي سابقاً، يتربّص لوراثة قيادته.

في تلك المرحلة كان رصيد «إخوان إيطاليا» يقتصر على عشرة مقاعد في مجلس الشيوخ وستة في مجلس النواب. ولم يتمكن خلال الانتخابات العامة والإقليمية التي أجريت حتى عام 2020 من تجاوز حاجز الـ6 في المائة من أصوات الناخبين، أي ما يقارب نصف التأييد الذي كان يحظى به حزب «الرابطة» («رابطة الشمال» أساساً) الذي كان زعيمه ماتّيو سالفيني قد بدأ يحلم بقيادة اليمين الإيطالي على وقع تدهور صحة برلوسكوني.

ولكن في عام 2022 انهارت الحكومة الائتلافية التي كان يقودها حزب «النجوم الخمس» بالتحالف مع «الرابطة»، فقرّر رئيس الجمهورية حل البرلمان والدعوة إلى انتخابات مبكرة عن موعدها أواسط صيف ذلك العام، خاضها اليمين ضمن تحالف ضمّ برلوسكوني وسالفيني وميلوني، بشرط أن يتولّى تشكيل الحكومة الحزب الذي يحصل على أكبر عدد من الأصوات في حال فوز التحالف. وفي المقابل، وكعادته، خاض اليسار الانتخابات منقسماً على نفسه وسط تناحر تياراته. وكانت المفاجأة نيل حزب «إخوان إيطاليا» أكبر عدد من الأصوات بين قوى اليمين. وهكذا أصبحت رئاسة الحكومة من نصيب ميلوني، التي كان يهزأ برلوسكوني من احتمال وصولها إلى ذلك المنصب.

أول امرأة ترأس الحكومة في إيطاليا

عندما أقسمت جورجيا ميلوني يمين الولاء لمنصبها كأول امرأة تتولّى رئاسة الحكومة في إيطاليا، كانت قد سبقتها صورة اليمين المتطرف الصاعد من كهوف الفاشية، الذي تتسع شعبيته باطراد ويوقظ أشباح الماضي المخيف في المشهد الأوروبي.

وفي العواصم الأوروبية الكبرى، كما في بروكسل «عاصمة» الاتحاد الأوروبي، سادت أجواء الترقّب من تداعيات وقوع السلطة، للمرة الأولى في تاريخ الاتحاد، بيد حزب مناهض للمشروع الأوروبي، على الأقل في صيغته الراهنة.

ومعلومٌ أن «إخوان إيطاليا» يرفض أن تصدر عن زعيمته إدانة صريحة للنظام الفاشي، وأن يُزال رمزه التاريخي «الشعلة» عن شعار الحزب، بينما يفاخر رئيس مجلس الشيوخ – وساعد ميلوني الأيمن – بتمثال نصفي للزعيم الفاشي بنيتو موسوليني في دارته.

الزعيم المجري فيكتور أوربان (رويترز)

إلا أن الخطوات الأولى التي أقدمت عليها ميلوني، خاصةً نحو الخارج، أظهرت استعدادها للبقاء ضمن «السرب» الأوروبي، والتنسيق مع الشركاء في جميع الملفات الكبرى، مع الحفاظ على تمايز في ملف الهجرة الذي كان الرافعة الأساسية في صعودها السريع حتى وصولها إلى رئاسة الحكومة.

إذ سارعت ميلوني إلى تأكيد الاصطفاف الإيطالي بجانب التحالف الغربي الذي تقوده الولايات المتحدة ضد الغزو الروسي لأوكرانيا، وبنت علاقات وثيقة مع رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون در لاين، وفتحت قنوات الحوار التي كانت متعثرة مع فرنسا، مُبحرة بذلك عكس التيار السائد داخل الائتلاف الحاكم الذي تقوده.

لقد أدركت ميلوني بسرعة أن الخروج عن خط الحليف الأميركي في السياسة الخارجية ليس وارداً، وأن المواجهة الصدامية مع الشركاء الأوروبيين مكلفة جداً بالنسبة للبلد الذي يرزح تحت عبء أعلى نسبة من الدين الخارجي والعجز العام داخل الاتحاد، وأن العداء مع فرنسا يجرّ متاعب كثيرة لا قدرة لإيطاليا على تحملها في المدى الطويل.

في غضون ذلك، كانت ميلوني ترسّخ شعبيتها في الداخل وتدفع بأجندتها اليمينية من دون عقبات تذكر، مطمئنة إلى رصيدها الشعبي، والغالبية الساحقة التي تدعمها في البرلمان قبالة معارضة ضعيفة مشتتة.

تأثير «الترمبية» على زعامتها

إلا أنه مع ظهور البوادر الأولى لانهيار الديمقراطيين في الولايات المتحدة، وما يستتبعه ذلك الانهيار من تداعيات خارجية - بخاصة على الجبهة الأوروبية - ومع اتساع دائرة الصعود اليميني المتطرف في أوروبا، بدأ كثيرون يرون في ميلوني «المرأة الحديدية» الجديدة في أوروبا.

صارت ميلوني، بالفعل، الشخصية السياسية التي تنظر إلى قيادتها القوى والأحزاب اليمينية المتطرفة الطامحة إلى السلطة في الاتحاد، الذي يعاني منذ سنوات تراجع الأحزاب التقليدية التي قام عليها مشروعه.

من جهتها، حرصت ميلوني في التحالفات التي نسجتها على الجبهة اليمينية في أوروبا، على تجنّب الذهاب بعيداً نحو القوى المتطرفة في أقصى هذه الجبهة، مثل حزب «البديل من أجل ألمانيا» أو «التجمع الوطني» الذي تقوده مارين لوبان في فرنسا، بل حافظت دائماً على «شعرة معاوية» مع المؤسسات والأحزاب التقليدية، خاصةً بالنسبة للدعم الذي يقدمه الاتحاد لأوكرانيا منذ بداية الاجتياح الروس.

رغم هذا، لم يمنع الحرص على تجنب الشطط أوروبياً الزعيمة الإيطالية من الانفتاح على جهات يمينية متطرفة خارج الإطار الأوروبي، مثل خابيير ميلي في الأرجنتين، أو الرئيس الأميركي دونالد ترمب الذي تفاخر بصداقتها معه... وتطرح نفسها «وسيطاً» بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة لاحتواء أزمة الرسوم الجمركية التي ما زالت تراوح مكانها.

مهادنة الفاتيكان... واعتدال مقابل التطرف

كذلك حافظت ميلوني، من موقعها رئيسةً للحكومة الإيطالية، أكثر من زعامتها لحزب يميني متطرف قام على أنقاض الفاشية، على علاقات جيدة مع البابا الراحل فرنسيس الذي كان طوال حبريته في مرمى سهام القوى اليمينية المتطرفة، خاصةً في موضوع الهجرة. ثم سارعت إلى تجديد هذه العلاقة مع خلفه لاوون الرابع عشر، مستفيدة من «الرافعة الفاتيكانية» لتعزيز حضورها على الصعيد الدولي.

وحقاً، خلال أقل من سنتين تمكّنت ميلوني من تغيير صورة اليمين المتطرف في أوروبا، وأقامت علاقات مؤسسية سلسة مع كتلة الحزب الشعبي الأوروبي (يمين متطرف)، من غير أن تنضوي تحت لوائه، وأصبحت بمثابة «جسر» بين أقصى اليمين والمحافظين التقليديين، كما نجحت حتى الآن في احتواء الجناح المتطرف داخل حزبها.

في هذه الأثناء، شكّلت القوى اليمينية المتطرفة التي حرصت ميلوني على النأي عنها في التحالفات التي نسجتها، بدورها «جبهتها» المستقلة. وبايعت هذه «الجبهة» رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان، بمباركة مزدوجة من واشنطن وموسكو، ريثما تتضح الصورة التي سيرسو عليها اليمين الأوروبي بعد الانتخابات المقررة حتى أواخر العام المقبل لمعرفة الحصان الفائز بين ميلوني وأوربان.

الخطوات الأولى التي أقدمت عليها ميلوني خاصةً نحو الخارج

أظهرت استعدادها للبقاء ضمن «السرب» الأوروبي والتنسيق

مع الشركاء في جميع الملفات الكبرى

ميلوني وأوربان... في الميزان

في الواقع، كثيرة هي الأمور التي تجمع بين ميلوني وأوربان، لكنهما يختلفان كثيراً من حيث أسلوب الزعامة وممارستها، وذلك بسبب التباين في المسار السياسي، وتاريخ البلدين، والعلاقة مع المؤسسات الأوروبية.

أولاً، لا بد من التمييز بين الواقع السياسي في كل من المجر وإيطاليا. فالمجر خارجة من نظام خضع طيلة عقود للنير السوفياتي، غير أنها تحمل إرثاً غنيّاً بالنضال من أجل الاستقلال، أولاً عن الإمبراطورية النمساوية، ثم عن هيمنة موسكو. ويجمع كثيرون على أن الصفات اللغوية والثقافية والتاريخية التي تميّز المجريين عن جيرانهم السلاف والجرمان، تجعل منهم شعباً مندفعاً بقوة نحو التمرّد والإصلاح.

أما الواقع السياسي الإيطالي، فهو وليد مخاض سياسي مديد يبدأ مع أول تجربة فاشية قبل الحرب العالمية الثانية، ويرسو عند نظام ضبابي سيطرت عليه الديمقراطية المسيحية طوال عقود، وقام لهدف أساسي هو كبح صعود الحزب الشيوعي، إلى أن تهشّم بفعل الفضائح والفساد، وانهار معه الحزبان الكبيران الاشتراكي والديمقراطي المسيحي اللذان تناوبا على السلطة في إيطاليا منذ سقوط موسوليني.

من هنا يجد اليمين الأوروبي، التقليدي والجديد والناشئ، نفسه اليوم أمام زعامتين مختلفتين من حيث المسار والواقع السياسي. فيكتور أوربان، الذي ظهر في المشهد السياسي المجري عام 1989 زعيماً شاباً مناهضاً للشيوعية، تنقّل بين تجمّعات وأحزاب ليبرالية حتى انتخابه رئيساً للوزراء عام 2010. يومذاك قاد حكومة يمينية معتدلة إلى أن بدأت المفوضية الأوروبية تضغط عليه لإجراء تغييرات اقتصادية كان يرفض معظمها، أو يعجز عن تنفيذها، إلى أن راح يجنح نحو المواجهة الصدامية مع المؤسسات الأوروبية، بل ويطالب بالعودة إلى «جذور» المشروع الأوروبي وإعادة الصلاحيات إلى الدول الأعضاء، حتى أصبح القدوة التي ألهمت بعده العديد من قادة اليمين الأوروبي المتطرف.

جورجيا ميلوني، من جهتها، هي وليدة التحول الذي شهده اليمين الإيطالي المتطرف في تسعينات القرن الفائت، إلى أن أصبح مقبولاً على الصعيد الأوروبي بفضل الذكاء الاستراتيجي الذي كان يتمتع به زعيمه (يومذاك) ورئيس مجلس النواب جيانفرنكو فيني، وتعاون سيلفيو برلوسكوني الذي كان يسعى إلى استقطاب أصوات اليمين من كل الاتجاهات.

إلا أن ميلوني، التي تولّت إحدى الحقائب الوزارية في إحدى حكومات برلوسكوني، كانت لها الرؤية والشجاعة لتأسيس حزبها الخاص «إخوان إيطاليا» بالرصيد الضئيل الذي كان يملكه فيني مع حزب «التحالف الوطني». وعندما تولّى ماريو دراغي تشكيل «حكومة الإنقاذ الوطني» التكنوقراطية، انفردت ميلوني وحدها بمعارضة حكومته... لتغدو الملاذ الأول للناخبين اليمينيين بعد الفشل الذريع الذي أصاب حزب برلوسكوني المترهّل. 

إيطاليا... المختبر السياسي الأوروبي

> إيطاليا، كما يرى كثيرون، هي أقرب ما يكون إلى المختبر السياسي الأوروبي. والسياسة الإيطالية دائماً «مشفّرة» ليس من السهل قراءتها واستبيان مندرجاتها. والحقيقة أن الإيطاليين ليسوا في اليمين ولا في اليسار... ليسوا جمهوريين ولا ملكيين... بل إنهم يرفضون دائماً التموضع في مواقف متطرفة، أو الذهاب إلى المواجهة الصدامية لحسم الخلافات العقائدية. ومن هذا المنطلق يسهل فهم التقلبات التي طرأت على المشهد اليميني الإيطالي، والتي لم يرصدها المراقبون الأوروبيون قبل حدوثها أو حتى بعده. في البداية، تعرضت ميلوني لهجوم لاذع في وسائل الإعلام الأوروبية وكواليس العواصم الكبرى في الاتحاد. ولكن مع مرور الوقت اكتشف الأوروبيون زعيمة جديدة لليمين الأوروبي تحظى بنفوذ دولي غير مسبوق منذ أيام المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل. ويوم الأربعاء الماضي، وبعد المكالمة الهاتفية التي أجراها الرئيس الأميركي دونالد ترمب بنظيره الروسي فلاديمير بوتين، وإطلاعه الأوروبيين على ما دار فيها، سارعت ميلوني إلى الاتصال بالبابا لاوون الرابع عشر للتنسيق معه حول العرض الذي قدمه الفاتيكان الأسبوع الماضي لاستضافة مفاوضات سلام بين موسكو وكييف. ويذكر أن رئيسة الوزراء الإيطالية جمعت نائب الرئيس الأميركي جي دي فانس ورئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون در لاين على مائدتها بُعيد تنصيب الحبر الأعظم؛ بهدف «فتح قناة» حوار بين واشنطن وبروكسل حول حرب الرسوم الجمركية. وثمة كلام أيضاً عن احتمال استضافة إيطاليا مفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين، بمباركة أميركية وفاتيكانية. في أي حال، أسهُم ميلوني في الداخل الإيطالي مرشحة للصعود، أو الاستقرار في أسوأ الأحوال؛ نظراً للانقسامات الحادة في صفوف المعارضة. وهي إلى صعود أيضاً على الجبهة الأوروبية، شريطة ألاّ تسير في ركاب الرئيس ترمب وسعيه إلى التفرقة بين الشركاء الأوروبيين خلال الأشهر المقبلة. وللعلم، لعل ميلوني الوحيدة بين الزعامات اليمينية المتطرفة في أوروبا، التي صعدت إلى السلطة على متن الانتقاد المباشر للمؤسسات الأوروبية والعديد من سياساتها، لكنها منذ وصولها إلى الحكم تتصرف بحرص شديد على هذه المؤسسات وتسعى إلى تغييرها من الداخل. وتساعدها في ذلك التقلبات الجيوسياسية الأخيرة وانعطاف أقصى اليمين الأوروبي نحو الواقعية السياسية التي تفرضها ممارسة السلطة.


مقالات ذات صلة

الكرملين... منتصف الطريق بين طهران وتل أبيب

حصاد الأسبوع قصف صاروخي إيراني على تل أبيب (رويترز)

الكرملين... منتصف الطريق بين طهران وتل أبيب

لم تنعكس اللهجة القوية التي أطلقها الكرملين ضد إسرائيل مباشرة بعد اندلاع الحرب الحالية، عملياً على التحركات الروسية. ولم يحمل التنديد الروسي بالهجوم الإسرائيلي

رائد جبر (موسكو)
حصاد الأسبوع مايك هاكابي

مايك هاكابي... سفير أميركا لدى إسرائيل «توراتي» ينكر وجود الشعب الفلسطيني

كان من الممكن لسفير الولايات المتحدة لدى إسرائيل، مايك هاكابي، أن يكون دبلوماسياً عادياً، بالكاد تحدث تصريحاته السياسية أثراً مهماً أو تلعب دوراً في كشف سياسات

إيلي يوسف (واشنطن)
حصاد الأسبوع الرئيس دونالد ترمب يقود حملة الجمهوريين ضد "قنون الرعاية الصحية"  - أوباما كير - (تلفزيون "آيه بي سي"

مواقف هاكابي نموذج لأميركا المحافظة الحالية

يؤمن مايك هاكابي بـ«التصميم الذكي» للوجود، ويرفض نظرية التطور الداروينية، كما ينكر خطر الاحتباس الحراري. عام 2004، نُقل عنه في برنامجه «أركنسو أسك»، وهو…

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
حصاد الأسبوع من جلسات القمة العربية في بغداد (رويترز)

متغيرات إقليمية تهدد أوزان الأحزاب في موسم الانتخابات العراقية

أدت مجموعة من القضايا في العراق إلى تسخين الأجواء باكراً مع تحضير القوى السياسية لخوض الانتخابات المقبلة. وهذه الانتخابات تبدو مصيرية على كل الصعد،

حمزة مصطفى (بغداد)
حصاد الأسبوع لي جاي ميونغ

لي جاي ميونغ... الرئيس الكوري الجنوبي أمام تحدي إنقاذ الديمقراطية ومعركة الفساد

بعد ثلاث سنوات من التعرّض للهزيمة، نجح لي جاي ميونغ، مرشح «الحزب الديمقراطي» لمنصب الرئاسة في كوريا الجنوبية، في الفوز بأرفع منصب في البلاد. ويأتي انتخاب لي،…

براكريتي غوبتا ( نيودلهي)

الكرملين... منتصف الطريق بين طهران وتل أبيب

قصف صاروخي إيراني على تل أبيب (رويترز)
قصف صاروخي إيراني على تل أبيب (رويترز)
TT

الكرملين... منتصف الطريق بين طهران وتل أبيب

قصف صاروخي إيراني على تل أبيب (رويترز)
قصف صاروخي إيراني على تل أبيب (رويترز)

لم تنعكس اللهجة القوية التي أطلقها الكرملين ضد إسرائيل مباشرة بعد اندلاع الحرب الحالية، عملياً على التحركات الروسية. ولم يحمل التنديد الروسي بالهجوم الإسرائيلي على إيران، وعدّه انتهاكاً فظاً للقانون الدولي و«مرفوضاً بشكل قاطع»، انحيازاً لـ«الشريك الإيراني» في المواجهة القائمة، قد تكون له تبعات ملموسة، بقدر ما جاء تأكيداً لمواقف موسكو السابقة الرافضة لـ«السيناريو العسكري» لتسوية الخلاف حول البرنامج النووي الإيراني. لكن بدا أن الكرملين كان يتوقع هذا التطور، وأعد له العدة، على الرغم من تحذيراته المتكررة من «عواقب وخيمة» للحل العسكري، للتعامل مع الواقع الجديد في الشرق الأوسط.

الرئيس فلاديمير بوتين كان الزعيم الوحيد الذي سارع فور اندلاع الحرب، إلى إجراء اتصالين مع كل من بنيامين نتنياهو ومسعود بزشكيان، ما أوضح أن موسكو فضّلت الوقوف في منتصف الطريق بين الطرفين. وبرز هذا تماماً عبر تأكيد بوتين أن تسوية الصراع القائم لا بد أن يقوم على إيجاد «توازن» واضح بين ضمان حق إيران في استخدامات الطاقة النووية للأغراض السلمية من جانب، وضمان مصالح إسرائيل وحقها في ألا تتعرّض لتهديد. وهذه اللهجة لم تكن مستخدمة كثيراً لدى الكرملين خلال السنوات الاخيرة.

لقد راوحت ردود الفعل الروسية على الضربات الإسرائيلية ضد إيران، بين «القلق» من تداعيات الحدث بعد «انهيار الجهود السلمية لتسوية الملف النووي»، وتحميل إسرائيل المسؤولية عن تداعيات «رفع مستوى المخاطر» وجرّ المنطقة إلى صراع مفتوح. وسارعت أوساط في موسكو لوضع «سيناريوهات» محتملة بينها انزلاق الوضع في المنطقة نحو «مواجهة شاملة» ترمي بآثارها على بلدان الشرق الأوسط.

بيان موسكو

أصدرت الخارجية الروسية بياناً شديد اللهجة أدان التحرك العسكري الإسرائيلي، وعدّه مخالفة «وانتهاكاً فظاً لميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي». واتهمت موسكو إسرائيل بأنها «اتخذت قراراً واعياً لزيادة تصعيد التوترات ورفع مستوى المخاطر. ولقد تكرّرت التحذيرات من خطورة المغامرات العسكرية التي تهدد الاستقرار والأمن في المنطقة. وتقع مسؤولية جميع عواقب هذا الاستفزاز على عاتق القيادة الإسرائيلية».

لكن هذه اللهجة الانتقادية القوية من موسكو، التي تعزّزت بعد يومين بإدانة ما وصفه الكرملين بـ«إحجام إسرائيل عن العودة إلى المسار السياسي» ترافقت مع اتهام موسكو الدول الغربية بأنها «تتحمل جزءاً من المسؤولية عن التصعيد»، لكونها أثارت «الهستيريا المعادية لإيران في مجلس محافظي الوكالة» الذي كان قد تبنى قراراً يدين طهران قبل يومين فقط من وقوع الهجوم الإسرائيلي. وبدا جلياً أن موسكو تعمل بسرعة على بلورة موقفٍ تبني على أساسه خطواتها اللاحقة.

لا مساعدة عسكرية لطهران

السؤال الأول الذي تردد بشأن موقف الكرملين، ركّز على مدى جدية احتمال أن تتدخل موسكو عسكرياً لصالح إيران، وبخاصة في إطار «التعامل بالمثل» مع المساعدات المهمة التي قدمتها طهران لموسكو في الحرب الأوكرانية.

لكن بدا منذ اللحظة الأولى أن هذا الأمر ليس مطروحاً أصلاً ضمن حسابات الكرملين، كما أنه لا يوجد أساس قانوني لهذا التدخل. فاتفاق «الشراكة الاستراتيجية الشاملة» المُبرم مع إيران في بداية العام، لا ينص على بند حول الدفاع المشترك، خلافاً لاتفاقية مماثلة وقعتها موسكو مع كوريا الشمالية العام الماضي وانعكست نتائجها عملياً في أوكرانيا.

صحيح أن الاتفاقية تؤكد «تعزيز التعاون في كل المجالات بما في ذلك العسكرية منها»، لكنها لا تلزم الطرفين بالتدخل في حال وقع اعتداء على أحدهما، مكتفية بإشارة إلى أنه «في حال تعرض أي طرف لعدوان خارجي فإن الطرف الآخر يلتزم بعدم مساعدة الأطراف المعتدية».

هذا لا يقلل بطبيعة الحال من أهمية الشريك الإيراني لموسكو في عدد من الملفات الكبرى التي تربط الطرفين، لكن الكرملين بدا أنه تحسّب لهذا «السيناريو» مُسبقاً، وخلافاً لتوقعات كثيرة تردّدت في أثناء صياغة النسخة النهائية من الاتفاقية، تجنّب أي إشارة فيها إلى موضوع الدفاع المشترك.

الاتصالات مع واشنطن

النقطة الثانية المهمة هنا، أن الحرب المشتعلة سببت حقاً نوعاً من الحرج للكرملين، وأظهرته عاجزاً عن الدفاع عن حلفائه، لكنها في المقابل فتحت فرصاً جديدة لموسكو لتعزيز موقفها مع الولايات المتحدة ومحاولة جني مكاسب من التطورات. فقبل أسبوع واحد من اندلاع الحرب أجرى الرئيسان الروسي والأميركي مكالمة هاتفية مطوّلة ركزت على الوضع حول إيران، إلى جانب تطورات الملف الأوكراني. واتضح بعد ذلك مباشرةً أن موسكو وواشنطن توصلتا إلى رأي متفق عليه: لا ينبغي لطهران امتلاك أسلحة نووية!

طبعاً، هنا ظهر إغراء كبير لإطلاق تكهنات مثيرة، تصب في إطار صفقة محتملة: «ترمب أعطى أوكرانيا لبوتين مقابل إيران».

لكن الأمر ليس بهذه البساطة. ليس فقط لأن سيطرة واشنطن على الوضع حول أوكرانيا محدودة بعض الشئ، بل كما أظهرت مفاوضات واشنطن وكييف حول المعادن النادرة، فإن أوكرانيا تدافع عن مصالحها الأساسية في كل الأحوال.

ثانياً، هناك أيضاً دول أوروبية لها موقفها الخاص ويمكنها التأثير في الصراع، وخاصة على الموقف الأميركي.

وهناك أمر ثالث أهم بكثير. فمن تابع الوضع بدقة يتذكر جيداً أن موسكو، قبل ترمب وقبل بدء الحرب الأوكرانية، كانت تعارض امتلاك إيران الأسلحة النووية. لذا لم تحدث أي تحولات جوهرية في موقف الكرملين من هذه القضية، ما يدحض الكلام عن صفقة «أوكرانيا مقابل إيران».

مع هذا ـ مجرد مناقشة الموضوع الإيراني خلال مفاوضات بوتين - ترمب أمر جدير بالاهتمام. إذ أوحى أن واشنطن ربما كانت أقرب إلى التعامل مع وساطة روسية في هذا الملف، انطلاقاً - كما يقول خبراء روس - من أن ترمب «يفضل التوصل إلى خيارات على شن عمل عسكري واسع قد لا يمكن التكهن بنتائجه»، مع أنه يبدي حزماً لفظياً تجاه طهران.

ولكن لم يمر وقت طويل بعد ذلك حتى اتضح أن ترمب شارك، وفق تعليقات خبراء روس وغربيين، في عملية تضليل استراتيجي لطهران. وأن الاتصالات التي أجراها وإبداءه قدراً من التعاطف مع فكرة الوساطة الروسية كانت جزءاً من ذلك التضليل.

أولويات الكرملين

صحيح أن روسيا أعلنت أكثر من مرة في السابق رفض امتلاك إيران أسلحة نووية، لكنها دافعت طوال سنوات عن حق طهران في تطوير استخدام الطاقة الذرية للأغراض الذرية من دون إظهار حساسية - خلافاً للغرب - تجاه مخاطر تحوّل البرنامج السلمي الإيراني إلى برنامج عسكري في وقت قصير نسبياً.

الموقف الروسي هذا بدا مستنداً ليس إلى مخاوف من جانب إيران نفسها بل إلى استراتيجية تقوم على رفض توسيع «النادي النووي» قبل وضع ضوابط وآليات للرقابة وتفاهمات جديدة مع الدول النووية الكبرى حول الانتشار وضبط التسلح. بعبارة أخرى تعارض موسكو فكرة إطلاق «فوضى نووية» أكثر من أن تكون معارضة لحق إيران بامتلاك السلاح النووي.

واللافت وجود تيارين أو رأيين لدى الأوساط المقربة من الكرملين في هذا الشأن: الأول يرى علناً إيران شريكاً استراتيجياً لموسكو، وهذه الشراكة أظهرت مستوى جديتها في المواجهة الراهنة بين موسكو والغرب، وعليه، فتعزيز قدرات إيران لا يخيف موسكو. والثاني يحذّر من ظهور جار نووي جديد لروسيا، متقلب الأهواء نوعاً ما، قد تتغير معالم سياسته الخارجية بناء على صفقات مع الغرب.

وعليه، فاحتمال إبرام اتفاق نووي جديد بين طهران وواشنطن لم يكن السيناريو الأمثل للكرملين. ومع ذلك، فإن الفشل التام للمفاوضات أمرٌ خطير أيضاً، لأن السيناريو العسكري سيؤدي حتماً إلى زعزعة استقرار إيران، وربما الوضع في عموم جوار روسيا. ومن ثمّ، تمثّل السيناريو الأمثل لموسكو في تجنب الحل العسكري وترك طهران تخوض مفاوضات طويلة الأمد من دون أي نتائج حقيقية، أو الانخراط بشكل مباشر في المفاوضات للحصول على مكاسب مهمة في حال أمكن التوصل إلى صفقة.

اتفاق «الشراكة الاستراتيجية الشاملة» بين روسيا وإيران لا ينص على الدفاع المشترك

فرص الوساطة الروسية

قبل اندلاع الحرب، كان المزاج السائد في موسكو أن الإيرانيين والأميركيين بحاجة حالياً لمشاركة روسيا. تحتاج طهران إلى وسطاء لزيادة فرص تنفيذ الاتفاق واستبعاد احتمال انسحاب ترمب، أو الرئيس الأميركي المقبل منه مجدداً خلال بضع سنوات. لذا، من مصلحة إيران إشراك أكبر عدد ممكن من الأطراف في الاتفاق: الوكالة الدولية للطاقة الذرية، والصين، وروسيا، بالإضافة إلى الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية.

طهران تحتاج أيضاً إلى وسطاء كمصادر للمراقبين. وإذا اقتصر الاتفاق على الأميركيين فقط، فسيتعين منحهم حق الوصول لمراقبة المنشآت النووية الإيرانية. وواشنطن تحتاج إلى مشاركة روسيا لحل المسائل الفنية. وكانت روسيا، في الاتفاق السابق، من وافق على تسلّم الوقود النووي المستهلك من إيران، وهو ما لم يكن المشاركون الآخرون مستعدين للقيام به.

موسكو رأت أنه في إطار أي اتفاق سيتوجّب على إيران التخلص من فائض اليورانيوم. وبدا أن روسيا الطرف الوحيد المؤهل لتولّي هذه المهمة: أولاً، لامتلاكها القدرات التقنية اللازمة لقبوله ومعالجته. ثانياً، لأنها الخيار الذي تُصرّ عليه طهران. وفي النهاية، سيكون أسهل بكثير لإيران استعادة اليورانيوم المخصب من روسيا إذا انسحبت واشنطن من الاتفاق مجدداً.

موسكو لم تغير أولوياتها تجاه هذا الموضوع مع اندلاع الحرب، بل عادت لطرح وساطتها بشكل ملحّ وأكثر من مرة عبر اتصالات أجراها بوتين مع عدد من قادة العالم. لكن المشكلة في عرض الوساطة الروسي افتقاره إلى آليات عملية، وإلى رغبة إسرائيل - والغرب عموماً - بالتعامل مع جهود موسكو. والأهم من هذين السببين، أن العرض يتناقض جوهرياً مع أهداف تل أبيب وواشنطن من هذه الحرب.

أيضاً، فضلاً عن اعتراض عدد من الدول الأوروبية على فكرة الوساطة الروسية، فإن الرئيس ترمب أيضاً نصح بوتين في مكالمة هاتفية «بأن يولي اهتماماً أكبر لتسوية الصراع في أوكرانيا بدلاً من عرض جهوده للتوسط بين إيران وإسرائيل». وللعلم، الأخيرة تجاهلت أصلا كل دعوات بوتين لبذل جهود للوساطة.

نقطة أخرى مهمة تضعف عرض الوساطة الروسية، هي أنه يقوم على فكرة العودة إلى التفاوض لتسوية الملف النووي، بينما الأحداث على الأرض تشير إلى انتقال واشنطن وتل أبيب إلى الحسم العسكري وتقويض البرنامج الإيراني كله.

سياسياً، يسعى الكرملين، إلى تجنيب إيران مصير التفكك أو تحضير الوضع الداخلي لتغيير جذري، بعد إضعاف السلطات الإيرانية واستهداف القيادات الأساسية أمنياً وعسكرياً، وهذا أيضاً أمر لا يحظى بقبول من جانب تل أبيب وواشنطن.

بوتين يحصد مكاسب

إن ضعف فرص الكرملين في التوسّط لإنهاء القتال لا يمنع الرئيس الروسي من تسريع وتيرة جني مكاسب بسبب اندلاع هذه الحرب. وهنا يقول خبراء إن احتمالات التفاوض على اتفاق ينهي الحرب وتقبل بموجبه إيران قيوداً أكثر صرامة على برنامجها النووي، تبدو ضئيلة للغاية بعد الهجمات الإسرائيلية. ولكن إذا استؤنفت المحادثات، قد يبرز عرض روسيا كعنصر محوري في أي اتفاق.

مع هذا، المكاسب الأهم لموسكو تتحقّق بالفعل في أوكرانيا حالياً. إذ تواصل القوات الروسية تقدمها على عدد من الجبهات، وتنفذ عملياً خطتها لإنشاء منطقة عازلة على طول الشريط الحدودي وداخل العمق الأوكراني من سومي إلى خاركيف. وعملياً، تكرّس موسكو - التي تتأهب حالياً لاستكمال جولات التفاوض المباشر مع أوكرانيا - واقعاً ميدانياً جديداً يعزز موقفها ويضعف مجالات المناورة الأوكرانية ويضع كييف أمام شرط القبول بتنازلات إقليمية مؤلمة لتحقيق السلام.

وبالفعل، استغلت موسكو انصراف الاهتمام الدولي إلى جبهات القتال الإسرائيلية الإيرانية لتوسيع هجماتها العسكرية بشكل نشط. ويُجادل بعض المعلقين في موسكو بأن المواجهة في الشرق الأوسط أسفرت عن تشتيت انتباه الغرب وموارده على الأرجح عن الحرب في أوكرانيا، وتُسهّل على روسيا تحقيق أهدافها الميدانية.

أيضاً، استفادت موسكو من المزاج السياسي الأميركي الحالي، في تكريس عزلة الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي عن واشنطن، وحسم موضوع المساعدات العسكرية الأميركية المحتملة لكييف. وتبين ذلك عبر إلغاء لقاء يجمع زيلينسكي بترمب على هامش «قمة السبعة الكبار» في كندا أخيراً. ورأت موسكو ان إلغاء اللقاء يعكس تحولاً مهماً لدى واشنطن.

في أي حال، يرى دبلوماسيون بارزون أن التطوّرات الجارية ستدفع الرئيس ترمب إلى تعزيز تقاربه مع موسكو. كذلك، يرجّح مراقبون أن تؤدي الهجمات الإسرائيلية إلى ارتفاع أسعار النفط العالمية، وستُساهم في إثراء روسيا وسط أزمتها الاقتصادية.

وعلى صعيد متصل، يتوقع مراقبون أنه مهما كانت نتائج هذه الحرب، في حال لم تسفر عن تقويض النظام الإيراني، سيتكرس واقع في إيران يخدم مصالح موسكو، لجهة بقاء «الحليف» مقرباً من موسكو وتقليص فرص الانفتاح على الغرب.

وللعلم، عملت موسكو بقوة على توظيف الحرب القائمة لخدمة سرديتها عن المواجهة مع الغرب. وبرزت تعليقات لمحللين مقرّبين من الكرملين حول أن الحرب الإيرانية الإسرائيلية أظهرت أن امتلاك قدرات الردع النووي أفضل ضمان ضد محاولات «تحفيز» العمليات الداخلية بالقوة العسكرية الخارجية.